طوفان الأقصى وحراجة الأسئلة الجذرية

باسل صالح

حرير- يصعب إنكار الإرباك الذي أحدثته عملية طوفان الأقصى عند العدو الإسرائيلي، وعند كل القوى المجتمعية والسياسية في المنطقة، وفي العالم. لا يمكن لعاقل أن ينكر أن الأهداف التي حققتها، والإصابات والأضرار التي ألحقتها بدولة الاحتلال، تخطّت كل إمكانية للالتفاف عليها وهضمها بموقف ضبابي من هنا، أو بموقف تسللي من هناك.

أربكت العملية الأنظمة العربية من النواحي كافة، إذ وضعت خياراتها أمام سؤال العصر المتعلق بالشعب الفلسطيني، وبمصير بلاده، على المحكّ. كما أعادت المشوار فيه إلى نقطة الصفر، حيث أعادت طرح السؤال بشأن سياسة التطبيع المعتمدة، خصوصًا وأن أنظمة التطبيع لم تستطع، خلال كل الفترة الماضية، تقديم أية إجابة شافية للشارع الفلسطيني على أيٍّ من القضايا التي تخصّه، ولم تستطع انتزاع أيٍّ من الحقوق الفلسطينية ووقف الممارسات الفاشية من العدو، ما كان يخدم محور الممانعة بشكل مباشر أو غير مباشر، ويخدم الغاية الإيرانية بالهيمنة على مداخل القضية الفلسطينية ومخارجها، والهيمنة، بالتالي، على مصير المنطقة والتلاعب بها وفيها، وعلى النقمة الشعبية العربية على كيان لم يعمل طوال السنوات الماضية إلا على ارتكاب المجازر والتنكيل بالشعب الفلسطيني، وإطاحة أبسط حقوقه الإنسانية، قبل أن نقول مصادرة حقوقه المدنية، لا بل حقوقه الوطنية بحكم أرضه وبناء (وإدارة) دولته عليها.

أربك “طوفان الأقصى” بنتائجه القوى التي تزعم المقاومة أيضًا، حيث تركت الشعب الفلسطيني عمومًا، وقطاع غزّة على وجه الخصوص، يواجه مصيره واستشهاده أمام الضربات العسكرية المتتالية، والتي تصل إلى حد الإبادة المنظمة وآخرها قصف المستشفى المعمداني واستشهاد ما يتخطى الـ 500 فلسطيني جلهم من النساء ومن الأطفال، فلم تقم بأية خطوة حاسمة، بل كل ما مارسته لا يعدو المحافظة على ماء وجهها تحت سقف شروط العدو وحلفائه. ناهيك عن أن العملية أربكت منطق كل القوى التغييرية والمجتمعية والشعبية في العالم العربي أيضًا، بعد أن فشلت في وضع أي تصوّر أو سردية أو مقاربة مختلفة لطبيعة الصراع مع العدو، وبقيت متموضعة في خطابٍ يتسطّح في بديهيات الممانعة من ناحية، أو في بديهيات خطابات أنظمة التطبيع من ناحية أخرى.

ما العدو الإسرائيلي فقد أربكته العملية إلى درجة لم يعد بمستطاعه العودة إلى ما قبلها، بعد كل ما حققه صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته في جسده معنويًا وماديًا، وفي أجهزته الأمنية والعسكرية، وفي سردية القوّة التي كان يقنع العالم وشعبه بها، فها هو يعيد طرح السؤال الأبرز على وقع الإجرام الذي يمارسه، والذي يكشف زيف ادّعاءاته وزيف ادّعاءات “العالم الحر المتحضر” خلفه، سؤال نقطة الصفر المتعلق بمستقبله وبأمنه وبكل شروط سلامته بالعيش في أرض ليست أرضه، وضمن حدودٍ ليست حدوده، وفي محيط شعبي وجغرافي وسياسي ليس محيطه. ولهذه العملية سيل من النتائج تتمثّل بالأسئلة والتداعيات التي لن تمرّ مرور الكرام على وجود دولته، وعلى سياسات الفصل العنصري التي يعتمدها، ولن يكون من الممكن الانزلاق بها إلى ما قبل “طوفان الأقصى”، وإلى ما قبل قدرة العناصر الفلسطينية على التسلل خلف خطوط العدو، خلف السياج العنصري الفاصل، سواء في البر، أو في الهواء في الأيام الأولى، السياج الذي حاولت دولة الاحتلال حشر الفلسطيني فيه بغرض فصله إنسانيًا وحضاريًا عن التاريخ، أو بالأحرى، بغرض رسم الحد الفاصل بين التفوق الحضاري والسياسي والديموقراطي من ناحيتها، وبين التخلف والبداوة والتأخر الفلسطيني من ناحية ثانية.

عملية طوفان الأقصى هي، باعتراف العدو، ضربة كبيرة له، وهو ما يمكن أن يفتح بعض الأفق، ولو نسبيًا، أمام الشعب الفلسطيني، الذي طالما تكبّد عناء الرعونة والإجرام والفاشية الإسرائيلية على مدار عقود، من دون أن يحرّك “العالم الحر” أي ساكن، ناهيك عن أنه لطالما تكبّد الخسار جرّاء الانهزامية والاستسلامية ومعادلاتها الخشبية منذ عقود أيضًا. لقد استطاعت هذه الحرب إعادة وضع السؤال بشأن المصير الفلسطيني على الطاولة، كما واستعادة رسم ملامح بعض اليقين على وجه ذاك الشعب الجبّار، في حين لم تستطع الأنظمة، ولا السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، إلا رسم علامات الحيرة.

لقد عملت المقاومة الفلسطينية على قلب ملامح الحيرة لتزيّن وجه كل من يشتغل بالسياسة، ولتجبره على البحث عن إجابات على الأسئلة المحورية التي يتعلق مصير المنطقة بالردود عليها. لكن الإرباك والتداعي الحاصل عاد بنا إلى نقطة تستوجب، إن أردنا تغيير التاريخ، إعادة فتح الدفاتر القديمة للبحث في الحسابات والمعادلات من خارج هذين المحوريْن، أو بأقل الأحوال، لنعلن وبكل نزاهة وصدق، أن مقاربة المقاومة انتصرت على بقية المقاربات، أقله حتى الساعة، وأن نهجًا انتصر على بقية المناهج، وهناك رواية وسردية عادت لتطرح ذاتها بقوة وبقدرة على إعاقة كل الروايات والسرديات الأخرى أمام صلافة العدو وتشبثه بكل خياراته القاتلة والوحشية بحقّ الفلسطيني من دون تقديم أي شيءٍ له، ولو كان الأمر على دماء الشعب وعلى حساب مستقبله وعلى قصف الإعلام والمستشفيات والمدارس. إنها سردية القتال المباشر التي تؤكّد على أن الشارع الفلسطيني عندما يطرح المعادلات، لا بد أن تنصت، وأن تتأثر كل المنطقة بها، ولا بد أن تعيد الأنظمة المحيطة كل حساباتها أمام شعوبها بموجبها، فتلك الشعوب العربية الكامنة، المرعوبة، الخائفة، اليائسة، التي تنتمي إلى هذه القضية قلبًا وقالبًا، تعلم جيدًا أن الأنظمة والسلطات لم تستطع تقديم أبسط الشروط لأعدل قضية على وجه الكرة الأرضية منذ منتصف القرن الماضي.

لا بد من القول، في المحصلة، إن مجموع الأسئلة الجذرية التي يطرحها هذا الطوفان، وهذه الحرب، على المحيط العربي، بأنظمته وبشعوبه، وعلى العالم كذلك، ستحتاج إلى إجابات واضحة ومواقف جريئة، وستفرض منعطفاتٍ حاسمةً في جميع الاتجاهات، بمعزل عن كونها اتجاهات نحو الموت أو اتجاهات نحو الحياة.

مقالات ذات صلة