مسيّرات فوق موسكو لاغتيال من؟

جيرار ديب

حرير- عقب إعلان الكرملين عن تعرّضه لهجوم بمسيّرات استهدفت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إنه لا يستطيع إثبات صحة اتهام روسيا بأن أوكرانيا حاولت اغتيال بوتين في هجوم بطائرة مسيّرة، لكنه لفت إلى أنه سينظر “بعين الريبة” لأي شيءٍ يصدر عن الكرملين. وردًا على سؤال عمّا إذا كانت الولايات المتحدة ستنتقد أوكرانيا إذا قرّرت بمفردها ضرب روسيا ردّا على هجمات موسكو، أوضح بلينكن إن “هذه قرارات يجب أن تتخذها أوكرانيا بشأن كيفية الدفاع عن نفسها”. وفي هذا السياق، أكّد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أن بلاده لم تهاجم موسكو أو بوتين. وأضاف في مؤتمر صحافي في هلسنكي “نحن لا نهاجم بوتين أو موسكو، نحن نقاتل على أرضنا”.

وبين التشكيك الأميركي في الرواية الروسية والنفي الأوكراني لها جملة وتفصيلًا برز التصعيد الخطابي من المسؤولين الروس، مؤكدًا أنّ هناك من فبرك هذه العملية بالمسيّرات كي يحرّر نفسه من القيود التي تعرقل مسار تحقيق انتصارات جدّية لجيشه، وهو ما يحتاجها الرئيس بوتين.

دعا الرئيس الروسي السابق، دميتري مدفيديف إلى تصفية الرئيس الأوكراني ردًا على هجوم مفترض بمسيّرتين استهدف الكرملين نهار الثلاثاء 4 مايو/ أيار الحالي، ونسبته موسكو إلى كييف. وكتب ميدفيديف، وهو حاليًا المسؤول الثاني في مجلس الأمن الروسي، على “تلغرام”، “بعد الاعتداء الإرهابي اليوم، لم يبق خيار سوى تصفية زيلنيسكي جسديًا مع زمرته”.

تحتاج روسيا لحادثة الطائرات المسيّرة “المجهولة المصدر” فوق الكرملين، لتنفذ ضربات انتقامية (قد تكون غير تقليدية) على الجيش الأوكراني. كيف لا وهناك أخبار باتت شبه مؤكّدة تفيد بأن القيادة العسكرية الأوكرانية انتهت من تحضيراتها الجدّية لتنفيذ هجوم “مضاد” على القوات الروسية الموجودة على أرض أوكرانيا.

تهدف حركة الرئيس الأوكراني في الخارج من خلال زياراته، وآخرها إلى فنلندا، إلى حشد الدعم الأوروبي والدولي. وفي الداخل طرح مشاريع قوانين قدّمها إلى برلمان بلاده، لتمديد مدة الأحكام العرفية والتعبئة العامة مدة غير محدّدة، وقد تزامن كل ذلك مع إعلان واشنطن عن الانتهاء من تسليم كييف كل طلبات المساعدات العسكرية، مشيرة إلى أنها ستعلن حزمة مساعداتٍ عسكريةً جديدة لأوكرانيا قريبًا.

يهدف تنسيق الخطوات بين واشنطن وكييف إلى تجهيز الجيش الأوكراني لبدء هجومه، لذلك كانت موسكو بحاجة إلى هذه المسيّرات كي تبرّر طرق ردّها وإفشال هذا الهجوم المنتظر عبر تنفيذ ضربات استباقية لأوكرانيا، فإطلاق التهديدات ذات السقف العالي من القيادة الروسية يهدف إلى تبرير موسكو اختيار الأسلحة المناسبة، فحتى استخدام ترسانتها النووية قد يكون موضوع النقاش على طاولة مباحثات الرد الروسي على هذا الاعتداء.

تحتفل موسكو بيوم النصر بعد غد 9 مايو/ أيار المقبل، والذي يصادف الاحتفال الثاني بعد العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا والتي لم تستطع تحقيق الإنجازات المرجوّة، فالروسي يحتاج تلك المسيرات ليس من أجل اغتيال زيلينسكي، بل لوضع الغرب أمام خيارين أحلاهما مرّ. الأول التهديد بضربة نووية استباقية لكييف وما بعد كييف، إذ إن عملية اغتيال بوتين هي الخط الأحمر الأساسي، لا بل هي أسقطت “كل الخطوط الحمراء أمام موسكو للردّ والدفاع عن نفسها وأمن سكانها”. أما الثاني، فهو إجبار كييف ونظامها على التوقيع على معاهدات الاستسلام والتنازل عن السلطة وتعيين سلطة مقرّبة من روسيا لحكم أوكرانيا، لهذا أطلق مجلس الدوما الروسي نداءً لتدمير نظام كييف بعد الهجوم على الكرملين.

قد يكون من الغباء الاستراتيجي أن تطلق المخابرات الأوكرانية عمليات مسيّرة فوق الكرملين لاغتيال بوتين، إلا أن الأكيد أن إطلاق المسيّرات فوق موسكو قد يحمل رسائل أوكرانية أبعد من لغة الاغتيال والتصفية الجسدية، فالعملية بحد ذاتها ترفع من معنويات الجيش الأوكراني في حربه المستمرّة ضد الجيش الروسي. ومن جهة ثانية، قد تحمل تلك المسيّرات رسائل إلى الشعب الروسي أن الخطر قد يطاولهم إن استمرّ بوتين في حربه العبثية على أوكرانيا.

مايو/ أيار من عام 2024 هو موعد الانتخابات الرئاسية الروسية، والتي يحقّ فيها للرئيس الروسي الترشّح لولاية خامسة، بعدما جرى تعديل الدستور الروسي عام 2020 القاضي بـ”تصفير” عدد ولاياته. لهذا قد تجد كييف في المسيرات عملية للتأثير على الرأي العام الناخب الروسي، بهدف اغتيال بوتين معنويًا وشعبيًا.

ستبقى هوية المسيّرات مجهولة، لأنّ الهدف ليس معرفة مصدر مطلقيها، بقدر ما هو معرفة كيفية استثمار طرفي النزاع فيها. الأول يريد الاغتيال السياسي لبوتين وليس التصفية الجسدية ووضعه أمام حالة من النقمة الشعبية الروسية ومساءلته في صناديق الاقتراع المقبلة، بينما الاغتيال الذي قد تستفيد منه روسيا من تلك المسيّرات هو إخراج زيلنيسكي من قاعدة المفاوضات على الحلول وضرب نظامه ورفض التفاوض معه، هكذا يكون بوتين قد حقّق نوعًا من التقدّم على الغرب.

مقالات ذات صلة